الاثنين، 5 مايو 2014

قد تجد نفسك في يوم من الأيام تقف في منطقة وسطى بين مكانين، وتجد عند وقوفك أنك واقع في بحر من الحيرة والتناقض والتخبط لا تعرف ماذا تفعل وكيف تفكر، ولكن الأدهى من ذلك الشعور هو أن ترى بأنك واقف هناك منذ زمن طويل وربما ظللت واقفاً إلى وقت غير معلوم. هذا ما أشعر به بالضبط معظم الوقت، وأكاد أحجم الآن عن كتابة هذه الكلمات، إلا أن إحساساً دفيناً يدفعني دفعاً إلى البوح، فلم يعد ثقل هذا الهم يُطاق..
ومن لا يسأل نفسه في وقت ما من أكون؟ وأين أنا؟ ولمَ وجدت هنا؟ ومن هؤلاء من حولي؟ كيف أعيش معهم؟ وكيف يعيشون معي؟ هي أسئلة لا تتعب النفس في صياغتها كثيراً فهي تقفز إلى المخيلة فجأة ومن غير ميعاد، ولا أدري هل ما يبدو على الكثيرين من الإحجام عن التطرق لمثل هذه الأسئلة سببه تجاهل متعمد من قبلهم أم أنها لم تترد في أخيلتهم بعد؟ ولكن كيف ولماذا؟ هل يعقل أن لا تتنازع نفس بشرية مع مثل تلك الأسئلة، إنني أفهم أن يتجاهلها المرء أو يدفنها أو يحاول إقناع نفسه بعدم جدوى البحث عن إجابات لها ولكن أن يدعي أنه لم يتسائل مع نفسه بأيٍ منها، فهذا ما لا يُعقل بالنسبة لي!
وهب أنني بحثت من حولي عن إجابات وأردت أن أستشف من محيطي ما يرضي فضولي وتعطشي فهل أجد شيئاً؟ بل وأن عملية البحث تلك قد تتكشف عن مزيد من الحيرة، وقد أخرج منها بما لم أكن أتوقعه من قبل.
من أنا؟ نتاج بيئة خلقها لي أول الأمر أبواي. شئنا أم أبينا فإن أول ما نعيه في هذا الدنيا ونكتسبه يُؤخذ مما يهبه لنا الأبوان، طريقة كلامنا، أفكارنا، آمالنا، هواجسنا، مخاوفنا، وحتى نظرتنا للعالم وللناس… تلك أمور نتشربها من غير وعي، ولو أصابنا بعض الحظ واستطعنا أن نشق طريقاً لذواتنا نجد أننا أمام صدمة لا تقل عنفاً عن وعينا بتأثرنا بالآباء، إنها صدمة أن تكون ذاتك. ولم هي صدمة؟ لأنك تحتاج لأن تفعل ذلك بمفردك، وتحتاج أيضاً إلى الإبحار في تيار من التناقضات والمصادمات التي قد تأكل من روحك وقلبك وصفاء ذهنك.
تخيل لو أن فتاة عاشت في كنف أبوين يتفاوتان في نظرتهما للحياة، وكان لتأثير الأب بحكم المجتمع الذكوري، أن تتشرب تلك الفتاة أفكار أبيها أو أن تنغرس في مخيلتها تصورات أبيها عن الناس والمجتمع والحياة. فهل سيكون من السهل إن ما هي نضجت واتخذت لها طريقاً تبني به شخصيتها أن تنعتق عن سطوة تلك النظرة وهيمنتها؟ لا أظن، بل وأكاد أجزم أن مخاضاً كهذا من العسر بما يجعل روح هذه الفتاة وقلبها يرزحان تحت نوع من الألم الصامت الكامن، الذي لا يعلم إلا الله متى ينفجر. لا ينبغي لأحدٍ أن يفهم الحياة في سن مبكر، بل لا ينبغي لأحد أن يمنحه هذا الفهم بتلك السرعة، فإن كان والد هذه الفتاة قد جعلها تدرك أن القراءة هي أجمل متع الحياة، وهي غذاء العقل وسبيل إذكائه بالفكر و الخاطرة، فإن هذه الفتاة بوعيها الطفولي ستنبري إلى التماس عالم لها بين الكتب، وستتخذ لها صحبة مع تلك الكائنات الورقية الجاثمة على الأرفف بكل ما تحويه من عوالم مختلفة، ولكن إنما ذهبت إلى هذا العالم بنفسها، هل ستعرف طريق الرجوع منه؟ هل ستعلم كيف تخرج منه متى ما أرادت؟ هل ستفهم أن هناك عالماً آخر في الخارج ينبغي لها أن تقف وجهاً لوجه أمامه وتفهمه، وتصطدم به، بل وتتنازع معه في بعض الأحيان؟ والمفارقة في عالم الكتب الذي ولجت إليه أنه هو نفسه سيجعلها تدرك هذه الحقيقة، تلك الكتب التي جعلتها متقدة الذهن، دائمة التفكير، منشغلة بخيالها ومنصرفة عن العالم من حولها هي نفسها ستدق لها ناقوس تلك الفكرة، فقد كان خوضها في هذا العالم مما خلق عندها الوعي الكافي حتى تفهم هذه الحقيقة، ولكن أي مفارقة هذه؟ هل ينبغي الخوض هكذا في مسالك وعرة حتى نصل إلى فهم حقيقة ما؟ هل كان ينبغي لها أن تغوص عميقاً في بحر الكتب والفكر حتى تدرك أن عليها أن لا تطيل المكوث هناك، لعل أشد الأمور بؤساً في الحياة هو أن تضطر إلى الخوض في الأشياء حتى تدرك مخاطرها، ولكنك تجد صعوبة في انتشال ذاتك من هول الصدمة التي شهدتها، تماماً كالشخص الذي لا يصدق ما يقوله المحبون عن حبهم حتى يغرق بنفسه في براثن العشق، فتجده يتخبط ولسان حاله: لقد فهمت! أما من أحد يخرجني من هنا! ولكن هيهات، لا خروج ولا مناص. إن دقة الفهم للحياة تفسدها كما يقول أحد الأدباء، وها أنذا استشهد بكلام من الكتب لأقول أن حب الكتب والغرق فيها أورثني حياة ناقصة أجدني معها أقف دائماً في منطقة وسطى. نعم تلك المنطقة الوسطى تعذبني وتؤرقني وأجدني أتعذب من وقوفي فيها كلما فكرت في حياتي وإلى ما ينبغي أن تؤول إليه. لقد أعملت عقلي، وشحذته بالقراءة والتفكير، ولست أقول أني قرأت الكثير، ولكنني مخلوق يستهلك التفكير كاستهلاكه للهواء، يمكن لأبسط الحركات واللفتات وحتى أدق التفاصيل أن تثير في ذهني مئات الأفكار والهواجس، وأعلم أني لست وحدي، كثيرون يشكون من كثرة التفكير.. ولكنني أقف في منطقة وسطى تنغص علي حياتي. أعملت عقلي فوجدتني أرفض الكثير مما يمليه علي مجتمعي سواءٌ في الدين أو في الحياة الاجتماعية… رفضت القيام بأمور أخرى كثيرة لأنني وقبل أن أقلد الآخرين في قيامهم بها فكرت فيها وحاولت أن استشف منها وأفهم حكمة ما أو علة تسوغها، وقرأت وسألت وحاورت، وخرجت بقناعات كثيرة لو بحت بها لا أضمن سلامة رأسي! وفكرت أيضاً بأن كوني فتاة لا يعزز من موقفي بل يضعفه. فلو كنت فتى لهان أمر اتباعي لقناعاتي.
ليتني لم أقرأ! ليتني خلقت فتاة بلهاء لا تفهم من الحياة سوى الاهتمام بمظهرها واقتناء الأشياء والاعتناء بظواهر الأمور، وانتظار قطار الزواج حتى يبلغها! لعلني كنت أقدر حينها على أن أعيش الحياة على الأقل ولا يثقل علي وطأها، إلا أنني أعود عن تفكيري هذا وأستذكر شعوري بالمقت والضيق عندما أجد من الناس من لم يعرف له هدفاً بل ولم يصل إلى فهم ولو حقيقة واحدة من حقائق الحياة. هي متعة أن تخوض في عوالم الفهم والإدراك، ولكنها عوالم تجتذبك من الواقع وقد تنسيك إياه، وعندما تجد نفسك في خضمه مرة أخرى بحكم الضرورة تصبح كالأعمى تلتمس الطريق وتتخبط في يأس. نعم هنالك واقع بائس يقول لي أنك لو شئتي أن تتزوجي ينبغي أن ترمي ورائك كل ما شكل حياتك السابقة، عاداتك، وأفكاركِ، وكتبك وربما حتى صداقاتكِ، ينبغي أن تجعلي من عالمك الخاص حياة ماضية، يعتريكِ الحنين إليها بين الحين والآخر ويمزقك ابتعادك عنها كلما تذكرتِ نعيمها، ولكنكِ لن تعودي إليها ثانيةً… مجرد التفكير بذلك يجعلني أحزن كثيراً وأرغب بالبكاء الشديد، كلا، ليس هيناً أبداً أن تجعلني أخلق عالمي الخاص، وتدعني أبني قناعاتي وذاتي ثم تأتي ولتخبرني بأن علي نبذها ومواجهة الواقع، ليس هيناً أن تفعل ذلك أبداً، لأنني إنسان ولست آلة أستطيع أن أبرمج عقلي وروحي ومشاعري تبعاً لما يرتضيه الواقع والمجتمع لي.. أنا إنسانة عشت سنوات عمري وأنا أغذي فضولي وأفكاري ووجداني حتى أبني لي ذاتاً وسط هذه الدنيا التي تعج بالبؤس والضياع والتوه، لقد تألمت حتى بنيت لنفسي قناعاتي وإدراكي، غصت في لجج كثيرة حتى أخرج منها ما يشبع رغبتي للمعرفة والتكون، فهل أرمي ذلك كله ورائي لمجرد فكرة سائدة تقول أن كوني فتاةً يحتم علي أن أسير في اتجاه محدد المعالم، معروفة أين هي وجهته؟! كلا ذلك ما لا يحتمل حدوثه، ولست ملومة في رفضي، فلو كانت هذه هي النهاية المحتومة فلمَ تركتني ابني لي ذاتاً وأكافح في سبيلها، لم تركتني أقرأ الكتب؟ لم تركتني أُعمل عقلي؟ لم سمحت لي بأن أكون رأياً وأتبنى موقفاً؟ لم سمحت لي بالخوض في غمار المصاعب والأفكار والمعضلات؟ إن الطريق الذي تريده لي سهل مسلكه، ولا يحتاج منك إلا أن تقودني مغمضة العينين وتخبرني بأنه أصلح شيء لي في هذا الوجود، فلمَ تركتني أسلك طريقاً ثم جئت تخبرني أن علي أن أتركه واتجه باتجاه آخر؟ لم جعلتني أقرأ وأفهم وغرست في ذهني وعياً بأهمية الفكر والمعرفة ومن ثم جئت تخبرني أنني فتاة لا يتوقع منها المجتمع إلا أن تكون زوجة اليوم وأماً في المستقبل، وأن تسحق ذاتها وكيانها في هذا السبيل ولا غير؟ لست أعيب دور الزوجة ولا دور الأم، بل هي أدوار سامية ومهمة، ووعيي وإدراكي يجعلانني أفهم الكثير عن هذه الأدوار وأقدرها، ولكنني لا أرضى أن يقول لي أحدهم أن علي الانفصال عن ذاتي حتى أتخذ هذين الدورين كما يجب، من قال أنني لا أستطيع أن أحافظ على ذاتي وأكون أماً في الوقت نفسه؟ ومن قال أن المشكل فيّ أنا؟ وأي فكرة راسخة هذه تحتم حدوث شيءٍ مماثل؟ لمَ يصعب على الطرف الآخر أن يقبلني كما أنا؟ أنا متصالحة مع ذاتي فهل الآخر متصالح مع ذاته؟ برأيي أن من لا يقبلني كما أنا ينبغي أن يراجع نفسه ويرى إلى أي مدى بلغ بها العطب حتى صار لا يقوى على رؤية الناس وفهم طباعهم وتقبل أمزجتهم. 
لم تكون الأمور بهذا التعقيد! ألا يمكن أن تكون الحياة أبسط من ذلك؟!! هل من الصعب أن تعيش كما أنت، كما هي طبيعتك، كما وجدت نفسك وقد أصبحت؟ لماذا ينبغي أن تلبس ألف قناع كل يوم، لمَ يجب أن تضحك على عقلك وتخدع نفسك وتوهمها بأنك تعيش مع المجتمع وأنت تعلم علم اليقين أنك لم ولن تعيش فيه ومعه مهما أوهمت نفسك ومهما أردت ذلك. 
مجتمع مريض معاق يخلقك على هيئة معينة ثم يلومك إن ما كنت على سجيتك وعملت بما تشعر به وتقتنع به، يجعلك صاحب أوهام، ويخلق منك كائناً مليئاً بالهواجس والتناقضات ثم يحاكمك ويعلن على الملئ أنك مصاب بالجنون، يقتلك ويخنقك ويخلق لك آلاف العلل النفسية ثم لا يرحمك إن ما أنت تألمت أو صرخت أو عارضت! 
وليتني أقوى على إسكات نفسي حتى لا تشعر بهذا الظلم وتتناساه وتنبذه خلفها! لكنت استرحت!! علي أن أكبت مشاعري إن ما ظهرت! أن أسكت صوت قلبي إنما نطق! علي أن أحكم على نفسي بالموت إذا ما أرادت أن تحيى! لماذا؟! لأنني بالرغم من رفضي لما حولي إلا أنني كائن ضعيف وجبان لا يقوى على الوقوف والصراخ رفضاً حتى يطالب بحقه في الحياة كما يريد! لأنني أكتفي بالنظر إلى من فعلوا ذلك وأغبطهم على تلك الشجاعة النادرة! لأنني أضيق ذرعاً بالعالم من حولي ولا أقول ذلك إلا لنفسي! لا أجرؤ على الحديث عنه علناً! لقد زرع في المجتمع الخوف والتردد، ووضع أمامي قيوداً وكبلني بحواجز وضيق علي الخناق! 
فيالها من غربة قاسية !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق